د. محمد كمال حرب : طبيب أطفال (طب أطفال ومراهقين) ، مستشفى راغب حرب الجامعي ، النبطية – لبنان
نظام المناعة في جسم الإنسان هو نظام معقد ما زال المجتمع العلمي يسعى إلى تفكيكه – بالنسبة إلى طريقة عمله، والعوامل المؤثّرة عليه، والأدوار التي يضطلع بها في الوقاية المستقبلية من الأمراض . ويكون الجهاز المناعي غير ناضج نسبياً عند الولادة ويتطور عبر مسار الحياة بفعل التعرّض إلى تحديات خارجية متعددة من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ اليافعة والراشدة، ليصل أخيراً إلى الشيخوخة حيث يبدأ بالتقهقر مجدّداً. ويبقى الأطفال الصغار، حتى بعد انطلاق مرحلة النضوج في جهاز المناعة، معرّضّين لخطر الإصابة بالعديد من الفيروسات المسببة للأمراض والبكتيريا والفطريات والطفيليات. ومع ذلك، فإنّهم يحظون بفرصة جيدة للبقاء على قيد الحياة في البلدان المتقدمة. وقبل توفر التغذية الجيدة والنظافة والتطعيم الشامل، بلغ معدل الوفيات بين الرضع والأطفال الصغار أرقاماً مرتفعة . ومن هنا فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف نساعد أطفالنا على بناء جهاز مناعة قوي وكيف نحميهم لبقية حياتهم؟
ينضج الجهاز المناعي تدريجياً خلال فترة الرضاعة. ويتم توفير الحماية المبكرة الدقيقة ضد العديد من الأمراض المعدية التي عانتها الأم سابقاً من خلال الأجسام المضادة IgG السلبية وهي مكونات مناعية تكافح الأمراض. ويتم نقله من الأم عبر المشيمة وفي الحليب في أثناء الرضاعة الطبيعية . وبمجرد أن تتلاشى العملية، يصبح الأطفال الصغار أكثر عرضة للعدوى، على الرغم من أنهم بحلول ذلك الوقت يصبحون أفضل تسلّحاً بفضل نضوج جهاز المناعة . أمّا اليوم فقد تراجعت المخاطر بشكل كبير بفعل اللقاحات، التي تحفز الاستجابات المناعية الوقائية في جهاز المناعة المتزايد النضوج. ومع ذلك، فقد تستمر إصابة الأطفال بالعدوى الفيروسية والبكتيرية والطفيلية التي يجب مكافحتها وضبطها من خلال الاستجابات المناعية الطبيعية. ومع مرور الوقت، تزداد الحماية التي توفرها الاستجابة المناعية، ويعاني البالغون اليافعون من حالات عدوى أقل . ولكن كيف يمكن للأطفال أن يبنوا جهاز مناعة فطريّاً أقوى يساعدهم على إنتاج خلايا مناعية متعددة قوية لمكافحة الأمراض؟
من المهم تسليط الضوء على أحد المكونات الفائقة الأهمية التي تؤثر على تطور الجهاز المناعي للإنسان طوال حياته، ألا وهي هي الكائنات الحية الدقيقة أو الميكروبيوتيا . تقع معظم ميكروبيوتا الجسم في الأمعاء أو يشار إليها أحياناً باسم الأحشاء. وفي الواقع، يأوي جسم الإنسان تريليونات من الخلايا الميكروبية التي يُعتقد أن أفعالها المنسقة مهمة للحياة البشرية . الميكروبيوتيا المعوية هي مجتمع الميكروبات الجيدة التي تسكن القناة المعوية. وتخضع هذه الأخيرة لتغييرات مختلفة خلال أول سنتين من العمر . يساعد الميكروبيوم (مجموع الميكروبات) المعوي في تنظيم الاستقلاب/الأيض الغذائي للمضيف وتطوير الجهاز المناعي. في السنوات الأخيرة، سعت العديد من الدراسات إلى تشريح تكوين ميكروبيوم أمعاء الرضيع ووظيفتها واستكشاف التوزيع عبر الاختلافات في الجغرافيا الحيوية داخل أمعاء الرضع للتجمعات الميكروبية المتلائمة، بما في ذلك سمات معيّنة للميكروبيوتيا، مثل انخفاض التنوع، إلى الأمراض المعوية عند الرضع أو الحالات المرضية التي تحدث في مراحل لاحقة من الحياة، بما في ذلك الربو ومرض التهاب الأمعاء واضطرابات الاستقلاب/الأيض الغذائي . ومن ناحية أخرى، كان الرضع والأطفال الذين يعانون من فائض الجراثيم أقل عرضة للإصابة بالأمراض. ومن هنا، أفاد عدد متزايد من الدراسات حول إمكانية تأثير تكوين/تطور ميكروبيوتا الأمعاء البشرية المبكرة على عوامل الخطر المتعلقة بالظروف الصحية للبالغين. وقد أدى هذا المفهوم إلى تطوير استراتيجيات لصياغة تركيبة ميكروبيوتا الرضع استناداً إلى العديد من المنتجات الغذائية الوظيفية .
تضطلع الكائنات الحية الكثيرة والمتنوعة في الأمعاء البشرية بأدوار دقيقة في الحفاظ على صحة الإنسان من خلال المساهمة في تفتيت المواد الغذائية من أجل إطلاق المغذيات التي قد يتعذر على المضيف الوصول إليها لولاها، من خلال تعزيز نمو خلايا الجسم وتكاثرها، وحماية المضيف من نمو مسببات الأمراض، ومن خلال تحفيز جهاز المناعة . وقد أثبتت دراسات مختلفة وجود علاقة واضحة بين العوامل التي تعطّل ميكروبيوتا الأمعاء في خلال الطفولة من جهة، واضطرابات المناعة والأيض في وقت لاحق من الحياة من ناحية أخرى. وبالتالي، تتزايد البيانات التجريبية التي تدعم الفوائد الصحية طويلة الأجل التي تم تجميعها من الميكروبات المعوية للرضع والتي تشير أيضاً إلى دور لميكروبيوتا الأمعاء البشرية المبكرة في قولبة عوامل الخطر المتعلقة بالظروف الصحية للبالغين. وقد أدى هذا الإدراك بدوره إلى إطلاق تطوير استراتيجيات للتأثير على تطوير ميكروبيوتيا الرضع وتكوينها وأنشطتها باستخدام منتجات التغذية مثل البروبيوتيكس والبريبايوتكس .
ترتبط مجموعة متنوعة من الأمراض التي تصيب الإنسان وأشكال أخرى من علم الأمراض بالتغيرات داخل الميكروبيوم. وتشمل هذه الأمراض التهاب دواعم السن المزمن ومرض كرون وأشكالاً أخرى من أمراض الأمعاء الالتهابية ومتلازمة القولون العصبي واعتلال الأمعاء المداري والإسهال المرتبط بالمضادات الحيوية والتهاب المهبل الجرثومي .
أمّا عدد الأعضاء في ميكروبيوتا الأمعاء فينحصر بعدد قليل نسبياً من مسببات الأمراض (الانتهازية)، وهي تقبع بدون قلق داخل الميكروبيوتيا المضيفة المعوية ولا تشكّل تهديداً صحياً للمضيف إلاّ عندما يكون النظام البيئي للأمعاء مضطرباً ويتعرّض استتباب ميكروبيوتا الأمعاء للتعطيل . وقد أظهرت دراسة حديثة في عام 2016 أن نمط تطور الجراثيم يتغيّر لدى الأطفال الذين يتمّ توليدهم عبر عملية قيصرية، أو معالجتهم بأجسام مضادة، أو تغذيتهم عن طريق الحليب الصناعي . وتم ربط التعرّض للمضادات الحيوية لدى الأطفال باضطراب الجراثيم وزيادة مخاطر الإصابة بالسمنة، والسكّري، وأمراض الأمعاء الالتهابية، والربو، والحساسيّات.
في الختام، يعتمد نظام المناعة القوي للبالغين بشكل كبير على ما كان يحدث في أثناء الرضاعة والطفولة. ويعتبر اللقاح هو المفتاح للمساعدة في مكافحة الفيروسات والبكتيريا على مدى الحياة. بالإضافة إلى ذلك، من المهم جداً أن تدرك الأم مدى أهمية ميكروبيوتا الأمعاء لطفلها النامي، وكيف يمكن أن تساهم في بناء مناعة مرنة تساعده طوال حياته. يمكنها اختيار الولادة الطبيعية وتجنب الولادة القيصرية إن أمكن، من أجل تعزيز نمو الجراثيم المعوية. وبالإضافة إلى ذلك، تمّ تسليط الضوء على مدى أهمية حليب الأم لازدهار ميكروبيوتا الأمعاء. يجب على الآباء أيضاً التنبّه إلى الطعام الذي يتناوله الأطفال لأنّ العناصر الغذائية والفيتامنات والمكونات مثل البريبايوتكس والبروبيوتيك تساعد أيضاً في تنظيم المناعة (1-4). في الواقع، فإن العناية بالميكروبات الخاصة بأطفالكم هي العناية بصحتهم ومناعتهم لبقية حياتهم.
هذا المقال ليس من تأليف أبتاميل، بل من تأليف الدكتور محمد كمال حرب صاحب المحتوى.
المراجع:
1. Milani C, Duranti S, Bottacini F, et al. The First Microbial Colonizers of the Human Gut: Composition, Activities, and Health Implications of the Infant Gut Microbiota. Microbiology and Molecular Biology Reviews; 2017; 81.
2. Bokulich NA, Chung J, Battaglia T, et al. Antibiotics, birth mode, and diet shape microbiome maturation during early life. Science Translational Medicine; 2016; 8(343).
3. Simon AK, Hollander GA, McMichael A. Evolution of the immune system in humans from infancy to old age. Proc. R. Soc. B; 2015; 282.
4. Reference: Relman D. The human microbiome: ecosystem resilience and health. Nutrition Reviews; 2012; 70.
قارني بين وزن طفلكِ ووزن الأطفال في نفس العمر
فريقنا من الخبيرات مستعد للإجابة على جميع استفساراتك ومساعدتك في رحلتك من الحمل حتى الأمومة. لمزيد من المعلومات والنصائح يرجى التواصل معنا من 9 صباحاً حتى 5 مساءً من الأحد للخميس.